نور الدين حنيف أبو شامة
كثيرٌ من كتاباتِ الكاتبينَ والكاتِباتِ والكَتَبَةِ والكُتّابِ تعومُ في تركيمِ المفرداتِ والعباراتِ خارجَ الطّلاوة والخيال. سواءٌ تعلّق الأمر بالشعر أو النثر، بالمُعْربِ أو بالعاميّ والزجليّ… ويظنّونَ أنهم يبدعون في جنس أدبيٍّ لا يكونُ إلا بالخيال. فيسقطون في محابر التشيُّؤ وهم يغرفون من معينِ اللغة ألفاظها المعزولة عن ظلالِها. فيقدّمونَ نصوصا ميّتة حنّطَتْها الرغبةُ في الظهور والانتشار والشهرة، وقضتْ على عمق الانتماء إلى هذا الجنس الأدبيّ أو ذاك. يمدُّ في غيِّهم نقادٌ هم أقْربُ إلى دكاكينِ الصّيْرَفيِّ منهم إلى النقدِ الكريمِ في تجرّدِه الأكرم.
والطّامّةُ تستفحلُ كلما طبّل لهؤلاءِ المُطبّلون وصفّق لهم المصفقون في منابرَ عامرةٍ بكلِّ شيءٍ إلا الإبداع. يحذوهمُ في ذلك المسارِ المعطوبِ شغفٌ أكثر عطبا في الظهور بمظاهر المنافحين والذّائدين عنِ الثقافة والمثقّفين، فيما الثقافةُ منهم بريئةٌ مثل ذئبٍ نزحَ من قصّةِ يوسف عليه السلام.
والتشيّؤُ أنواع، وأبغضُهُ إلى الإبداعِ تشيّؤٌ يستدعي الكلامَ باسمْ الفنّ، في ما هو تركيمٌ قاصرٌ لأجساد اللغة بدون هوية. وهويةُ لغةِ المبدعِ التي تميزه عن غيره وتحطّهُ في قمم الإنجاز الأدبي هي الخيال. فلا كتابةَ لكَ إن لم يكن لديكَ خيالٌ يسبح بالقارئِ في عوالِمَ إدهاشيةٍ غيرِ العوالمِ التي يعيشُ فيها. القارئُ يعرفُ أن البيضة من الدجاجة، فلا حاجةَ له بتذكيركَ إياهُ في كتابتك بهذه المعلومة. القارئ يتنظر منك أن تُزوْبِع مقولة الواقعِ في قبضتِكَ الأديبة كي تشعّ في قبضتِهِ المتلقية. القارئُ سينبهرُ إذا أسندْتَ البيضةَ إلى الدّيكِ، لأنه سيحترمكَ ما دمْتَ قد عانقْتَ فكرةَ الخيالِ ودعوتَهُ إلى تقاسمِ هذا الخيالِ بغضّ النظر عن صوابِ أو خطأ المقولة، لأن مقاييس التقييم هنا خرجتْ من قبضة المنطق الّذي يؤمن بمقولتي السبب والنتيجة إلى مقولات أخرى لا تقبل التسييجَ أو المعيارية التي تقبعُ في أذهاننا المبنية منذ القدم.
التشيّؤُ في مجالِ الإبداع، يقصّ أجنِحَة الكاتب، فيحرمُ ذاتَه من نعمةِ التحليق، وبالتالي يحكمُ على إنجازهِ بالحومِ السفليّ القريب من الأرض، ومن الواقعِ الّذي لو خيّرتَ القارئ فيه بين التصوير والتخييل لاختار الأخير، لأنه مقتنعٌ شديد القناعةِ أنّ الآلةَ الفوتوغرافية تمتلك قدرةً خارِقَة على نقل الواقع كما هو بدون أجنحة. القارئُ لا يرغب في تكرار المشهد الذي تقدمه أنت خاليا من مسحةِ الخيال، في أطباق لغوية ناشفة من الطلاوة. ونحن لا نستيقظُ صباحا كي نتكرر ونعيدَ في غير نهاية نسخة الأمس، وكلٌّ منّا يرغب في يومٍ جديدٍ يعانق فيهِ تحوّلا كيفما كان نوعه، وتغيّرا مهما كان حجمه، فلا حاجةَ لنا بك أيها الكاتب لتكرر فينا المشهد نفسه، والنسخة نفسها والعالم نفسَه وأنت تشيِّؤُنا بإنجازك اللغوي الباهت في المزيدِ من الشبَهِ والتكرار والرّتابة، بنسختكَ المسطَّحة والخاوية من كل وثوب أو اندفاع.
يقتل التشيُّؤُ الخيال والتخيّل والتخييل، ويفتك بالانطلاق والتجنيح والتسيّبِ الباني، ويحوّلنا في كتابات هؤلاء المدّعين أدبا إلى كائناتٍ بليدة تتمثّلُ الأشياءَ كما هي في الواقع، فتحرمنا من أبسط حقوق التلقي وهي الاستمتاعُ بالاحتمال. وتعوقُ دخولنا في أزمنة الإبداع وعوالمه الغريبة والمدهشة. تمنعنا من توسيع إدراكاتنا وتمثّلاتنا واستيهاماتنا، وتطلب منّا أن نلوكَ مثلَها ونجترّ مثلَها ونهضمَ مثلَها، في غيرِ استلْذاذٍ أو لذّة، وفي غيرِ إعْمالٍ مستقلٍّ وحرٍّ لفكرنا ولعمقِنا ولشخصيتِنا الرافضة لعمليات الاستنساخ.
كتابةُ التشيُّؤِ خطيرةٌ وشديدةُ الخطر، لأنها تتلبّسُ بلبوسِ البسيط والسهل الممتنع، فيما هذا الأخير براءٌ منها. وهي في دوغمائيتها المُغْرِضَة تتدثّرُ بهذا الشعار، في ما هو فلسفةٌ عميقةٌ عند أهلها الذين يعقلون مقولة (السهل الممتنع) عقلاُ إيجابيا ومتناسلا وولّادا… ويفهمون منه وفيه أن اللغة السهلة في انسرابها لا تعني التنازل عن حقّها في التخييل. والسهولة هنا مشروطة بالتمنع، والتمنع لا يتأتّى في المباشر والتقريري، بقدر ما يتأتّى في المتخيل والمُجنّح. التّمنّع مرحلة قصوى في الإبداع، ومنطوق الكلمة يرقى بالسهل من قبضة الخطاب اليومي الذي يجترّ ذاتَه داخل البداهة الرتيبة، إلى آفاقِ التعبير المحلّق والبعيد الذي ينقلنا من حالاتِ الشبه إلى حالاتِ التنوع والتعدد والاختلاف والعجيب والعجائبي والغريب والغرائبي وما شئنا من سماوات التحليق في منظومةٍ كُتِبَ عليها أن تكون إبداعا لا أن تكونَ اجترارا وتقليدا للواقع.
أيّها الكَتَبَةُ القابعونَ في سراديب البداهةِ والشبه، لا تُشيِّؤونا في عجزكم اللغوي عن مطاولة سماوات الخيال والتخيّل والتخييل. اذْهبوا بنا بعيدا إلى هناك، حيث الفضاءاتُ الممكنة واللاممكنة، وحيث نجتني معكم قطافا يليق بصعودنا، أو اتْركونا في حالِنا نبحث عمّنْ ينقُلُنا إلى الدهشاتِ الغابرة. فالواقعُ قد أثقلَ صدورَنا بسطحيتِهِ المقيتة، فلا تزيدونا تسطُّحا وتشابها وتكرارا… وجزاكم اللهُ عن الإبداع خير الجزاء.