مريم مبروك
مامن شك أن كل التحولات العديدة التي يعرفها حقل السيكولوجيا ترخي بظلالها على مجال البيداغوجيا، بحيث تعتبر العلاقة الوظيفية بين مجال البحث السيكولوجي من جهة وامتداداته العلمية داخل الميدان التربوي من جهة أخرى قائمة وثابتة، وهي علاقة أكدها المفكر التربوي جان بياجي الذي بين أن المناهج البيداغوجية والديداكتيكية الجديدة والبرامج المدرسية تتطور وتتجدد بناء على تطور وتجدد معطيات البحث السيكولوجي.
ففي زمن أصبحت المعارف والمعلومات تفيض بمختلف أنواعها وأشكالها، وفي متناول كل راغب بفضل الثورة التكنولوجية والإعلامية، الأمر الذي حتم على القائمين على التربية والتعليم ضرورة مسايرة هذا الواقع المتطور من خلال مواجهة المتطلبات التربوية العصرية التي تشكل تحديات عديدة ومتسارعة، مما يتطلب إعادة مراجعة منظومة التعليم لإيجاد طرق واتجاهات حديثة لتطوير وتحسين عملية التعلم.
ومن الأهداف التي تسعى المنظومة إلى تحقيقها وخاصة في رؤيتها الاستراتيجية مساعدة المتعلم على كيفية التعلم، وذلك عن طريق تقديم استراتيجيات التعلم الحديثة التي تمكنه من اكتساب المعلومات وتنظيمها. لذلك لم تعد أساليب التعلم التقليدية والتي يكون فيها المدرس هو المصدر الوحيد للمعلومات والمتعلم متلقيا سلبيا فاعلة، بل أصبح مفهوم العملية التعليمية يركز على أساليب واستراتيجيات حديثة ومتطورة يكون دور المدرس فيها هو التوجيه والإرشاد.
أصبح على المنظومة التربوية الحديثة أن تولي للعمليات الذهنية والقدرات المعرفية عند المتعلم أولوية كبيرة في مناهجها وبرامجها الدراسية.
وكذلك الاعتراف بأن الطفل يتوفر على كفاءات مبكرة وله قدرات واعية، الشيء الذي أرغم النظرية البنائية على التطور رغم سيادتها لفترة طويلة ولا يزال البراديغم الذي يؤسس لمناهجنا وبرامجنا الدراسية رغم انه موضع تساؤل منذ ثمانينات القرن الماضي، خاصة مع التطور السريع للعلوم المعرفية التي طرحت مجموعة من الأعمال العلمية ملخص فكرتها أن الأطفال يتمتعون بكفاءات معرفية كبيرة، بل اكتشفت هذه الكفاءات عند الرضيع..
فهذه القدرات والكفاءات يمكن ملاحظتها في وقت أبكر بكثير مما افترضه بياجيه في نظريته البنائية.
الشيء الذي يجعلنا نطرح أسئلة على منظومتنا التربوية:
– كيف يمكنها أن تساير التحولات السريعة التي أصبحت مدعومة وبقوة من المنهج التجريبي خاصة نتائج علم النفس العصبي؟
– كيف يمكنها تجاوز المناهج التي تعتمد على السيرورات المعرفية -التي أصبحت متجاوزة في الأنظمة التربوية الحديثة- إلى البحث عن الكفاءات المعرفية؟
– هل يمكنها الاعتراف بهذه الكفاءات المبكرة؟
– هل يمكننا مثلا أن نعمم إجبارية التحاق الأطفال بالروض مبكرا؟
– هل يمكننا أن ننقل الأطفال ذوي الكفاءات العالية إلى أقسام أعلى والاعتماد على العمر الذهني كما تفعل العديد من الدول ونتجاوز الانتقال الكلاسيكي الحتمي من قسم إلى آخر، بيد أن نتائج الأعمال النفسية والتربوية تقف إلى جانب نظرية التسريع شرط أن يكون التلميذ موهوبا ذا كفاءات عالية نتيجة اختبارات موثوقة؟
وبالتالي فدراسة وتحديد الاستراتيجيات التعلمية بمختلف أصنافها وأنواعها المعروفة في معظم الأدبيات التربوية وخاصة تلك المرتبطة بأبحاث علم النفس التربوي سواء منها ما يعرف “Les stratégies cognitives”. بالاستراتيجيات المعرفية
“Les stratégies- métacognitives” الاستراتيجيات الميتا معرفية
والعمل على تدريب التلاميذ على استعمالها وتوظيفها حسب طبيعة ومهام وأنشطة التعلم وفقا لخصوصية المواد الدراسية المختلفة يمكن أن يحقق قفزة نوعية في مجال التعلم المدرسي في بلادنا والذي تعاني منظومته التعليمية من ارتفاع معدلات الفشل الدراسي – الغالي احرشاو (2007).
ويجب أن نؤكد على أن امتلاك الشخص لكفاءات معرفية وقدرات ذهنية عالية لا تعني النجاح في تحقيق مختلف المهام بسهولة ونجاعة بل المفروض أن ينجح أيضا في التوظيف الجيد لتلك الكفاءات في شتى مجالات الحياة.
وهنا تكمن أهمية وفعالية طرق التشخيص المعرفي وبرامج التربية المعرفية لتحسين تعلماته عبر التأكيد على سبب أي فشل محتمل لا يرتبط بالنقص في القدرة والكفاءة بل بالعجز في الاشتغال المعرفي والمجهود الشخصي الضعيف أو الإحساس بالعجز المكتسب – الغالي احرشاو (2007).
لذلك أصبحت ظاهرة تدبير الكفاءات تحتل موضعا بارزا داخل المجتمعات المعاصرة.
1- مفهوم الكفاءات المعرفية
هناك إجماع شبه تام على أن الكفاءة عبارة عن مجموعة من القدرات والمهارات التي تشكل البنية الأساسية للسيرورات المعرفية، فهي تمثل مستوى الوعي ودرجة المهارة التي يستطيع بها الفرد استخدام مختلف أنواع المعارف وأشكالها وخاصة المعارف اللغوية والرياضية والتواصلية.
فرغم صعوبة الإقرار حتى الآن بنموذج نظري متكامل للكفاءة المعرفية نظرا للتباين الواضح بين اتجاهين اثنين في هذا النطاق:
أولهما: يقول بوحدة هذه الكفاءة.
والثاني: يقول بتنوعها.
إلا أنه يمكن تعريفها على أنها تمثل النشاط الذي تقيسه وتشخصه اختبارات معرفية – الغالي احرشاو (2017).
إذن فعلى أساس أن الكفاءة تمثل النشاط الذهني الذي يسمح للإنسان بالتصرف الفعال أمام سلسلة من المهام والوضعيات بغية التحكم فيها فهي لا تنحصر في قدرة بعينها أو قدرة محددة.
أن تمتلك قدرات معينة لا يعني بتاتا أنك إنسان كفؤ، فكثيرا ما يمتلك الناس المعارف والقدرات لكنهم يفشلون في تجنيدها لتوظيفها عند الحاجة. كما أنه يصعب اكتساب كل المعارف لبناء كفاءة معينة.
2- العلاج التربوي
يتلخص المشروع العلمي والعملي للتربية المعرفية في تجسيد مسلمة إمكانية تعليم قواعد التفكير واستراتيجيات التعلم، فهذا المشروع يقول بفرضية قابلية الذكاء للتربية المعرفية. “éducabilité cognitive”
النفاد إلى تفاصيل هدا الورش الكبير لا بد من الرجوع إلى أصول هذدا المشروع التي تعود من جهة إلى التصورات البيداغوجية الفارقة المتمثلة بالخصوص في أعمال اطارد
” حول تربية الطفل المتوحش. Montaigne -Itard”
ومن جهة أخرى إلى التصورات السيكولوجية المتمثلة في أعمال بينيه Binet الرافضة للأطروحات القائلة بثبات الذكاء.
مفهوم العلاج التربوي:
يندرج هذا الشق من المقاربة المعرفية في إطار توجه إكلينيكي للتربية المعرفية فالمسالة تتعلق بنوع من النقص أو العجز في اشتغال الأدوات المعرفية.
إنها وساطة تربوية علاجية تهدف إلى إعادة بناء وترميم الأدوات والعمليات والسيرورات المعرفية للتعلم – رايض (2021/ ص:197).
وهو شكل من أشكال العلاج يستخدم لعلاج الأفراد الدين يعانون من اختلالات في التعلم، أو إعاقات أو تحديات يقدم مجموعة متنوعة من المنهجيات والمواد التعليمية لمساعدة الطالب على بناء كفاءته.
حيث يتعلم جميع التلاميذ بشكل مختلف ويعالجون المعلومات بطريقة فريدة، يتم استقبال المعلومات من خلال الحواس الخمس، فيتعلم بعض التلاميذ بشكل أفضل من خلال السمع (التعلم السمعي) أو من خلال التعلم الحسي، فإذا تم تعليم هؤلاء لتقوية أنظمة التعلم لديهم يصبح التعلم أسهل وأكثر كفاءة.
كما أن بعض التلاميذ يعانون من مشاكل في التركيز أو نقص الانتباه… قد يجعل التلميذ أقل تقبلا للتعلم مما يحتم على المدرس ليس فقط إلقاء درسه وكفى، بل أصبحت وضيفته أبعد من ذلك بكثير، حيث أصبحت تتجلى في تعليم مهارات التعلم الأساسية، وتطوير الاستخدام الاستراتيجي لنقاط القوة لدى التلاميذ لتعزيزها، وتطوير الاستقلالية وفهم العلاقة بين التعلم والأداء الاجتماعي أو العاطفي، فإن فشل التلميذ رغم مجهودات المدرس، لا بد من الوعي بأهمية العلاج التربوي.
فالمعالج التربوي الذي قد يتدخل في تعزيز مجموعة من المهارات من بينها: المعالجة البصرية والسمعية والانتباه التركيز بالإضافة إلى تعزيز مهارات الذاكرة، كما تشمل خطة العلاج التربوي تطوير بعض المهارات الأخرى الأكثر صعوبة (اضطراب التعلم – صعوبات التعلم).
متى نستخدم العلاج التربوي؟
عسر القراءة، عسر الكتابة، عسر الحساب، اضطراب أو نقص الانتباه، اضطراب الانتباه مع فرط نشاط الحركة، صعوبات التعلم، الدوافع المهارات: (مهارات تنظيمية أو دراسية ضعيفة) قلق الدراسة.
“L’aide cognitive3- المساعدة المعرفية “
يقوم مفهوم المساعدة المعرفية على مبدأ تربوي معرفي عام يفترض أن السيرورات المعرفية والميطا معرفية المسئولة عن التعلم وفي أي مستوى قابلة للتربية والتعلم، وانطلاقا من المبدأ نفسه يرى أصحاب هدا الطرح أن الطفل المتأخر ذهنيا يتوفر طبيعيا على المؤهلات والقدرات المعرفية نفسها التي تتوفر لدى غيره من الأطفال العاديين، بل ويمر في تطور ونمو سيروراته المعرفية من المراحل نفسها التي يمر منها هؤلاء – رايض (2021).
يتعلق الأمر هنا بتربية معرفية قوامها إرشاد الشخص وتوعيته بإمكانية تجاوز بعض أو جل المشاكل والصعوبات التي يواجهها في وضعيات ومواقف التعلم، والتكيف والتوافق والتواصل والاندماج.
وبهدف تصحيح بعض النواقص المعرفية الخاصة الناجمة عن مختلف العوامل التكوينية والنمائية التي عطلت النمو المعرفي للشخص وأعاقت بالتالي اشتغاله الذهني (خاصة الخفيف والمتوسط).
4 – مبررات الظهور
تتلخص المبررات الأساسية لظهور التربية المعرفية في العناصر الاتية:
التطور الأخير للسيكولوجيا المعرفية التي أضحت تركز أكثر فأكثر على دراسة الكفاءات وسيرورات الاشتغال ونجاعة البرامج المعرفية في تقويم وتصحيح بعض النواقص والقصورات المحتملة.
استثمار تطورات الثورة المعرفية وأبعادها السيكولوجية الهائلة في تحقيق المشاريع التطبيقية التي كثيرا ما دعا إليها علماء النفس والتربية.
5 – أسس المساعدة المعرفية
هناك مقومات مشتركة لبرامج المساعدة والعلاج المعرفيين: وهي عبارة عن مجموعة من الخصائص الحاضرة في اغلب برامج التربية المعرفية والتي يمكن إجمالها في ما يلي:
– مسلمة ليونة القدرات المعرفية: إن الأخذ بالفرضية القائلة إن الذكاء لا يشكل قيمة ثابتة مهما كان سن الشخص ونوع التربية التي تلقاها، يعني ضمنيا التسليم بوجود قابليته لتربيته أو إمكانية تنميته وتطويره عبر برامج المساعدة المعرفية، وبرامج التدخل والإرشاد، وهي واحدة من المهام الأساسية للتربية المعرفية.
– كما أن الذكاء كان يشكل في بداية القرن العشرين الموضوع الأكثر سحرا وجاذبية، حيث ذهب كثير من الباحثين إلى التركيز على مدى إمكانية بناء طرق وأساليب لتربية الذكاء وتطويره وبالخصوص لدى الأشخاص المتأخرين ذهنيا.
6- برامج المساعدة المعرفية
نقصد بها أنواع البرامج التي تعد بالعشرات حيت يجمل “Sorel” أهمها في 27 شكلا بعد إخضاعها للتصفية والتقويم.
فمند ظهور هدا النوع من الأدوات والبرامج ما فتئ عددها يتزايد ويتناسل وما فتئت تراكيب أسمائها وعناوينها وأهدافها تختلف وتتنوع… إننا أمام ترسانة هائلة من الأدوات والبرامج لتنمية الذكاء وتربيته… هناك المئات من نسخ هذه الدراسات والبرامج تباع كما تباع مختلف السلع – رايض (2021/ ص 204).
وكانت أهم هذه الأشكال تتجلى في سبعة برامج وهي: الإغناء الأداتي “PEI” لصاحبه feuerstein.
وبرنامج ورشات التفكير المنطقي “ARL” لصاحبه higelé وبرنامج “اللوغو logo” لصاحبه papert وبرنامج التعلمات الإجرائية “PAO” لصاحبه paour وبرنامج التدبير الدهني “PGM” لصاحبه de la granderie.
وبرنامج تنمية القدرة على التعلم “papeca” لصاحبه berdaum ثم برنامج رامن “ramain” – احرشاو (2017).
سنسلط الضوء في هدا البحث على برنامج الاثراء الاداتي أو الاغناء الأداتي نظرا لأهميته وكثرة تداوله
فضلا عن قيمة التقويمات التي انيطت به.
7- برنامج الإثراء الأداتي
تعد استراتيجية الإثراء الأداتي من الاستراتيجيات التي تعتمد على النظرية المعرفية، صمم هذا البرنامج سنة 1980 على يد روفين فورشتاين، هو طبيب نفسي كان يعمل مع الأيتام الذين نجوا من المحرقة. حيث ساهمت استراتيجيته في تعديل الطريقة التي يفكرون بها في تشكيل المعرفة، لأنه كان يرى أن الناس قادرون على تعديل الطريقة التي يفكرون بها عن طريق إعادة التشكيل الجذري للنظام المعرفي.
أهداف البرنامج
– تنمية الوظائف المعرفية والعمل بمسلمة قابليتها للتطوير والإغناء.
– تعديل البنيات المعرفية للتفكير.
– إغناء الاشتغال المعرفي للمبحوث وتحفيزه على بناء نموه المعرفي الذاتي.
– التخفيف من الفشل الدراسي أو علاجه بصفة نهائية.
الوسائل المستعملة في البرنامج
– تمارين منطقية فردية تهم عمليات الاستنباط والاستقراء والقياس والتعميم.
– الاعتماد على أربع مراحل للتطبيق:
1 – تتعلق بمد المبحوث بتعليمات البرامج مع مطالبته بالتفكير أولا.
2- تهم تحديد المجال الخاص بكل مهمة أو مشكلة.
3- ترتبط بالجمع بين الحلول المقدمة من لدن كل مبحوث قصد إقامة صراعات سوسيومعرفية.
أما المرحلة الرابعة فتخص إمكانية تعميم الحلول المقدمة على وضعيات ومواقف أخرى.
– تبادل الأدوار والتفاعل داخل مجموعات صغيرة تتكون من 10 إلى 12.
– اعتماد الوساطة كمحدد أساسي لتنفيذ حصص البرنامج بمعنى أن للوسيط أهمية كبيرة.
– القراءة والكتابة غير مطلوبتين.
– الفئة المستهدفة مراهقون وراشدون محرومون ثقافيا أو من مستويات منخفضة دراسيا ويشتكون من صعوبات في هذا الباب أو تأخر دهني.
– مدة البرنامج: من 80 إلى 200 ساعة موزعة على مجموعة من الحصص.
النتائج المحققة
– تأثير إيجابي على الكفاءات المعرفية العامة المرتبطة خاصة بالتفكير الاستقرائي والعددي والمكاني.
– إمكانية تعميم ذلك التأثير الإيجابي على الاكتسابات المدرسية.
– انعكاس إيجابي بخصوص تقدير الذات والسلوك داخل الفصل.
خلاصة
كخلاصة لمضامين هذا البحث نشير إلى أن إشكالية تشخيص الكفاءات وتربيتها لم تعد تمثل المطمح الكبير للأشخاص ذوي الصعوبات على الصعيد المعرفي فقط، بل أصبحت أيضا تشكل المسعى العلمي المحدد لمختلف الممارسات السيكولوجية والتربوية ذات الآثار الإيجابية والنتائج المضمونة في شتى مجالات الحياة اليومية، وخاصة مجالات التعليم والتكوين.
لا بد لنا من الانخراط في هذا المسعى من خلال الأبعاد التالية:
– العمل ببيداغوجيا تعددية مبنية على برامج المساعدة المعرفية قوامها دعم المتعلم في حالة الفشل، ومساعدته على مراقبة وتضبيط مختلف استراتيجياته المعرفية وتكييفها مع خصوصية الميادين والوضعيات والمشاكل التربوية.
إعداد برامج تدريبية للمدرسين والتكوينات المستمرة –
– إجراء بحوث ميدانية تتناول استراتيجيات معرفية وميطا معرفية وعلاقتها بمتغيرات الذكاء والإبداع والتحصيل والدافعية.
– الإقرار بأن إشكالية التربية المعرفية التي تغذي إشكالية المساعدات المعرفية هي التي يجب أن نراهن على توظيفها واستثمار طرقها ومناهجها في شتى ميادين الحياة اليومية.